الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال ابن الجوزي: قوله تعالى: {وإِن من شيء}أي: وما من شيء {إِلا عندنا خزائنه} وهذا الكلام عامّ في كل شيء.وذهب قوم من المفسرين إِلى أن المراد به المطر خاصة، فالمعنى عندهم: وما من شيء من المطر إِلا عندنا خزائنه، أي: في حُكمنا وتدبيرنا، {وما ننزِّله} كل عام {إِلا بقَدَر معلوم} لايزيد ولا ينقص، فما من عام أكثرُ مطرًا من عام، غير أن الله تعالى يصرفه إِلى من يشاء، ويمنعه من يشاء.قوله تعالى: {وأرسلنا الرياح لواقح} وقرأ حمزة؛ وخلف: {الريح}.وكان أبو عبيدة يذهب إِلى أن {لواقح} بمعنى مَلاقح، فسقطت الميم منه، قال الشاعر:أراد: المَطاوح، فحذف الميم، فمعنى الآية عنده: وأرسلنا الرياح مُلقِحة، فيكون هاهنا فاعلٌ بمعنى مفْعِل، كما أتى فاعل بمعنى مفعول، كقوله: {ماءٍ دافقٍ} [الطارق 6]. أي: مدفوق، و{عيشة راضية} [الحاقة 21 والقارعة 7]. أي: مَرضيَّة وكقولهم: ليل نائم، أي: مَنُوم فيه، ويقولون: أبقل النبت، فهو باقل، أي: مُبقِل.قال ابن قتيبة: يريد أبو عبيدة أنها تُلْقِح الشجر، وتُلْقِح السحاب كأنها تُنتجه.ولست أدري ماضطره إِلى هذا التفسير بهذا الاستكراه وهو يجد العرب تسمي الرياحَ لواقحَ، والريحَ لاقحًا، قال الطِّرِمَّاح، وذكر بُرْدًا مَدَّه على أصحابه في الشمس يستظلُّون به: فاللاقح: الجنوب، والحائل: الشمال، ويسمون الشمال أيضًا: عقيمًا، والعقيم: التي لا تحمل، كما سمَّوا الجنوب لاقحًا، قال كثيِّر: يعني: الشمال.وإِنما جعلوا الريح لاقحًا، أي: حاملًا، لأنها تحمل السحاب وتقلِّبه وتصرِّفه، ثم تحلُّه فينزل، فهي على هذا حامل، ويدل على هذا قوله: {حتى إِذا أقلَّت سحابًا} [الأعراف: 57]. أي: حملت.قال ابن الأنباري: شبّه ما تحمله الريح من الماء وغيره، بالولد التي تشتمل عليه الناقة، وكذلك يقولون: حرب لاقح، لِما تشتمل عليه من الشر، فعلى قول أبي عبيدة، يكون معنى {لواقح}: أنها مُلقحة لغيرها، وعلى قول ابن قتيبة: أنها لاقحة نفسها، وأكثر الأحاديث تدل على القول الأول.قال عبد الله ابن مسعود: يبعث الله الرياح لتلقح السحاب، فتحمل الماء، فتمجُّه ثم تَمريه، فيدرُّ كما تدرُّ اللقحة.وقال الضحاك: يبعث الله الرياح على السحاب فتُلقِحه فيمتلىء ماءً.قال النخعي: تُلْقِح السحاب ولا تُلْقِح الشجر.وقال الحسن في آخرين: تُلْقح السحاب والشجر، يعنون أنها تُلْقح السحاب حتى يُمطر والشجر حتى يُثمر.قوله تعالى: {فأنزلنا من السماء} يعني السحاب {ماءً} يعني المطر {فأسقيناكموه} أي: جعلناه سُقْيالكم.قال الفراء: العرب مجتمعون على أن يقولوا: سقيت الرجل، فأنا أسقيه: إِذا سقيته لِشَفَتِه، فإذا أجرَوا للرجل نهرًا قالوا: أسقيته وسقيته، وكذلك السُّقيا من الغيث، قالوا فيها: سقيت وأسقيت.وقال أبو عبيدة: كل ما كان من السماء، ففيه لغتان: أسقاه الله، وسقاه الله، قال لبيد: فجاء باللغتين.وتقول: سقيت الرجل ماءً وشرابًا من لبن وغيره، وليس فيه إِلا لغة واحدة بغير ألِف، إِذا كان في الشَّفه؛ وإِذا جعلت له شِرْبًا، فهو: أسقيته، وأسقيت أرضه، وإِبله، ولا يكون غير هذا، وكذلك إِذا استسقيت له، كقول ذي الرمة: فإذا وهبت له إِهابًا ليجعله سقاءً، فقد أسقيته إِياه.قوله تعالى: {وما أنتم له} يعني: الماء المُنزَل {بخازنين} وفيه قولان.أحدهما: بحافظين، أي: ليست خزائنه بأيديكم، قاله مقاتل.والثاني: بمانعين، قاله سفيان الثوري. اهـ. .قال القرطبي: قوله تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ} أي وإن من شيء من أرزاق الخلق ومنافعهم إلا عندنا خزائنه؛ يعني المطر المنزل من السماء، لأن به نبات كل شيء.قال الحسن: المطر خزائن كل شيء.وقيل: الخزائن المفاتيح، أي في السماء مفاتيح الأرزاق؛ قاله الكلبي.والمعنى واحد.{وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} أي ولكن لا ننزله إلا على حسب مشيئتنا وعلى حسب حاجة الخلق إليه؛ كما قال: {وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرض ولكن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ} [الشورى: 27].وروي عن ابن مسعود والحكم بن عُتيبة وغيرِهما أنه ليس عام أكثر مطرًا من عام، ولكن الله يقسمه كيف شاء، فيُمْطَر قوم ويحرم آخرون، وربما كان المطر في البحار والقِفار.والخزائن جمع الخزانة، وهو الموضع الذي يستر فيه الإنسان ماله.والخِزانة أيضًا مصدر خَزَن يَخْزُن.وما كان في خِزانة الإنسان كان مُعَدًّا له. فكذلك ما يقدر عليه الرب فكأنه مُعَدٌّ عنده؛ قاله القشيري.وروى جعفر بن محمد عن أبيه عن جدّه أنه قال: في العرش مثال كل شيء خلقه الله في البر والبحر.وهو تأويل قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ}.والإنزال بمعنى الإنشاء والإيجاد؛ كقوله: {وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر: 6]، وقوله: {وَأَنزْلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيد} [الحديد: 25].وقيل: الإنزال بمعنى الإعطاء، وسماه إنزالًا لأن أحكام الله إنما تنزل من السماء.{وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)}فيه خمس مسائل:الأولى: قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرياح} [الحجر: 15]. قراءة العامة {الرياح} بالجمع.وقرأ حمزة بالتوحيد؛ لأن معنى الريح الجمع أيضًا وإن كان لفظها لفظ الواحد.كما يقال: جاءت الريح من كل جانب.كما يقال: أرضٌ سبَاسِب وثوبٌ أخْلاق.وكذلك تفعل العرب في كل شيء اتسع.وأما وجه قراءة العامة فلأن الله تعالى نعتها بـ {لواقح} وهي جمع.ومعنى لواقح حوامل؛ لأنها تحمل الماء والتراب والسَّحاب والخير والنفع.قال الأزهري: وجعل الريح لاقحًا لأنها تحمل السحاب؛ أي تُقِلّه وتصرّفه ثم تَمْرِيه فتستَدرّه، أي تنزله؛ قال الله تعالى: {حتى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا} [الأعراف: 57]. أي حملت.وناقة لاقح ونُوق لواقح إذا حملت الأجنة في بطونها.وقيل: لواقح بمعنى مُلْقِحة وهو الأصل، ولكنها لا تُلقح إلا وهي في نفسها لاقح، كأن الرياح لَقِحت بخير.وقيل: ذوات لَقْح، وكل ذلك صحيح؛ أي منها ما يُلقح الشجر؛ كقولهم: عيشة راضية؛ أي فيها رضًا، وليل نائم؛ أي فيه نوم.ومنها ما تأتي بالسحاب.يقال: لَقِحت الناقة {بالكسر} لَقَحا ولَقاحا {بالفتح} فهي لاقح.وألقحها الفحل أي ألقى إليها الماء فحملته؛ فالرياح كالفحل للسحاب.قال الجوهري: ورياح لواقح ولا يقال ملاَقح، وهو من النوادر.وحكى المهدوي عن أبي عبيدة: لواقح بمعنى ملاقح، ذهب إلى أنه جمع مُلْقِحة ومُلْقِح، ثم حذفت زوائده.وقيل: هو جمع لاقحة ولاقح، على معنى ذات اللّقاح على النسب.ويجوز أن يكون معنى لاقح حاملًا.والعرب تقول للجنوب: لاقح وحامل، وللشّمال حائل وعقيم.وقال عبيد بن عُمير: يرسل الله المبشِّرة فتقم الأرض قَمّا، ثم يرسل المثيرة فتثير السحاب، ثم يرسل المؤلفة فتؤلفه، ثم يبعث اللواقح فتلقح الشجر.وقيل: الريح الملاقح التي تحمل الندى فتمجّه في السحاب، فإذا اجتمع فيه صار مطرًا.وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الريح الجنوب من الجنة وهي الريح اللواقح التي ذكرها الله في كتابه وفيها منافع للناس».وروي عنه عليه السلام أنه قال: «ما هبّت جنوب إلا أنبع الله بها عينا غَدقة».وقال أبو بكر بن عياش: لا تقطر قطرة من السحاب إلا بعد أن تعمل الرياح الأربع فيها؛ فالصَّبا تهّيجه، والدَّبُور تُلقحه، والجنوب تُدِرّه، والشمال تفرّقه.الثانية: روى ابن وهب وابن القاسم وأشهب وابن عبد الحكم عن مالك واللفظ لأشهب قال مالك: قال الله تعالى: {وأرسلنا الرياح لواقِح} فلقاح القمح عندي أن يحبب ويُسَنْبِل، ولا أدري ما ييبَس في أكمامه، ولكن يُحبّب حتى يكون لو يبس حينئذ لم يكن فسادًا لا خير فيه.ولقاح الشجر كلها أن تثمر ثم يسقط منها ما يسقط ويثبت ما يثبت، وليس ذلك بأن تورّد.قال ابن العربي: إنما عوّل مالك في هذا التفسير على تشبيه لقاح الشجر بلقاح الحمل، وأن الولد إذا عقد وخلق ونفخ فيه الروح كان بمنزلة تحبب الثمر وتسنبله؛ لأنه سُمي باسم تشترك فيه كل حاملة وهو اللقاح، وعليه جاء الحديث: «نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن بيع الحَبّ حتى يشتد» قال ابن عبد البر: الإبَّار عند أهل العلم في النخل التلقيح، وهو أن يؤخذ شيء من طلع {ذكور} النخل فيُدْخَل بين ظهراني طلع الإناث.ومعنى ذلك في سائر الثمار طلوع الثمرة من التين وغيره حتى تكون الثمرة مرئية منظورًا إليها.والمعتبر عند مالك وأصحابه فيما يذكّر من الثمار التذكير، وفيما لا يذكّر أن يثبت من نوّاره ما يثبت ويسقط ما يسقط.وحدّ ذلك في الزرع ظهوره من الأرض؛ قاله مالك.وقد روي عنه أن إباره أن يحبّب.ولم يختلف العلماء أن الحائط إذا انشق طلع إناثه فأخِّر إباره وقد أبر غيره ممن حاله مثل حاله، أن حكمه حكم ما أبر؛ لأنه قد جاء عليه وقت الإبار وثمرته ظاهرة بعد تغيبها في الحبّ.فإن أبر بعض الحائط كان ما لم يؤبر تبعًا له.كما أن الحائط إذا بدا صلاحه كان سائر الحائط تبعًا لذلك الصلاح في جواز بيعه.الثالثة: روى الأئمّة كلّهم عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من ابتاع نخلًا بعد أن تؤبر فثمرتها للذي باعها إلا أن يَشترط المبتاع ومن ابتاع عبدًا فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع» قال علماؤنا: إنما لم يدخل الثمر المؤبر مع الأصول في البيع إلا بالشرط؛ لأنه عين موجودة يحاط بها أمن سقوطها غالبًا.بخلاف التي لم تؤبر؛ إذ ليس سقوطها مأمونًا فلم يتحقق لها وجود، فلم يجز للبائع اشتراطها ولا استثناؤها؛ لأنها كالجنين.وهذا هو المشهور من مذهب مالك.وقيل: يجوز استثناؤها؛ وهو قول الشافعي.الرابعة: لو اشتُرِي النخل وبقي الثمر للبائع جاز لمشتري الأصل شراء الثمرة قبل طِيبها على مشهور قول مالك، ويرى لها حكم التبعية وإن أفردت بالعقد.وعنه في رواية: لا يجوز.وبذلك قال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وأهل الظاهر وفقهاء الحديث.وهو الأظهر من أحاديث النهي عن بيع الثمرة قبل بدوّ صلاحها.الخامسة: ومما يتعلق بهذا الباب النهي عن بيع الملاقح؛ والملاقح الفحول من الإبل، الواحد مُلقح.والملاقح أيضًا الإناث التي في بطونها أولادُها، الواحدة ملقَحة بفتح القاف.والملاقيح ما في بطون النوق من الأجنة، الواحدة ملقوحة؛ ومن قولهم: لُقِحت؛ كالمحموم من حُمّ، والمجنون من جُنّ. وفي هذا جاء النهي. وقد جاء عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه: «نهى عن المَجْر وهو بيع ما في بطون الإناث».ونهى عن المضامين والملاقيح. قال أبو عبيد: المضامين ما في البطون، وهي الأجنة.والملاقيح ما في أصلاب الفحول. وهو قول سعيد بن المسيّب وغيره.وقيل بالعكس: إن المضامين ما في بطون الجمال، والملاقيح ما في بطون الإناث.وهو قول ابن حبيب وغيرِه.وأيّ الأمرين كان، فعلماء المسلمين مجمعون على أن ذلك لا يجوز.وذكر المزني عن ابن هشام شاهدًا بأن الملاقيح ما في البطون لبعض الأعراب:وذكر الجوهريّ على ذلك شاهدًا قول الراجز: قوله تعالى: {فَأَنزَلْنَا مِنَ السماء} أي من السحاب.وكل ما علاك فأظلّك يسمى سماء. وقيل: من جهة السماء.{مَاءً} أي قطرًا.{فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} أي جعلنا ذلك المطر لسقياكم وللشرب مواشيكم وأرضكم.وقيل: سَقى وأسقى بمعنىً. وقيل بالفرق، وقد تقدّم.{وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} أي ليست خزائنه عندكم؛ أي نحن الخازنون لهذا الماء ننزله إذا شئنا ونمسكه إذا شئنا.ومثله {وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48]، {وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرض وَإِنَّا على ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون: 18].وقال سفيان: لستم بمانعين المطر. اهـ.
|